ماذا نحمل في حقيبة حياتنا؟

الحقيبة الثقافية

 

يُحكى* أن الشاعر العباسي عليّ بن الجهم دخل على الخليفة المتوكّل وأنشده:
 أَنتَ كَالكَلبِ في حِفاظِكَ لِلوُدْ                           وَكَالتَيسِ في قِراعِ الخُطوبِ
أَنتَ كَالدَلوِ لا عَدِمناكَ دَلواً                               مِن كِبارِ الدِلا كَثيرَ الذَنوبِ

لم ينتفض الخليفة وقتها منزعجًا من كلامه، فلقد عرف بحِلمه وحكمته أن هذا الشاعر قارنه بأفضل ما شاهد في بيئته الصحراوية التي عاش فيها، واستخدم ثقافته الخاصة ليوصل رسالة تتكلّم عن الوفاء والإقدام والكرم. بل أمر له بمنزل جميل يُطلّ على نهر دجلة وتركه فترة من الزمن.

بعض المحددات الثقافية للثقافة العربية الإسلامية




في مجموعة الصور الموضحة أعلاه نشاهد بعض ما يحمله معنى "ثقافة"؛ فالثقافة تتعلق بالثياب، بالشراب والأكل وطريقة الأكل، بالموسيقا والشعر والفن، بالدين والعمارة والبيئة وحتى الحيوانات التي تحيا مع البشر في نفس بيئتهم.

إذا افترضنا أن كل واحد منّا يحمل حقيبة على ظهره يضع فيها ما يعجبه من الأشياء التي يراها أو يسمعها من كل شخص يلتقيه وكل مكان يزوره ... فهل ستكون محتويات حقائبنا متشابهة؟

لا تتشابه محتويات حقائب البشر الثقافية أبدًا (حتى التوائم منهم) بسبب عوامل عديدة: مثل اختلاف شبكة العلاقات الاجتماعية واختلاف النشاطات الحياتية واختلاف الأهواء والأذواق والرغبات والميول من إنسان لإنسان.
ولو أضفنا فوق هذه العوامل عوامل أخرى مثل اختلاف اللغة والدين لأدركنا مقدار اختلاف ثقافتنا التي نحملها عن ثقافة البلد أو البيئة الاجتماعية التي انتقلنا إليها من بلدنا وبيئتنا.

لإن اختلاف المشرب الثقافي للبشر يؤدي بالضرورة لاختلاف نظرتهم تجاه الأمور ذاتها: فكل واحد منهم يراها من زاويته هو - وفق منظار ثقافته هو!
ولتبسيط الأمر، يمكننا اعتماد نموذج جبل الجليد (الموضّح في الصورة أدناه).

نموذج بنية جبل الجليد
لجبل الجليد الذي نراه عادة في الصور جذر كبير ممتد تحت الماء لا نراه (يُعتبر الأساس الحامل لهذا الجبل، مثل أساسات أي بناء مرتفع).
ما نراه فوق سطح الماء هو التصرف الذي يظهر عند الناس له باعث ومحرّك يكون عادة مخفيًا (تحت الماء) وغالبًا ما يكون قيمة أو وازعًا مجتمعيًا أو اقتصاديًا أو دينيًا.
فإذا اعتبرنا أن التصرفات المختلفة للناس (ثقافة) مثل: لبس الحجاب عند المرأة المسلمة وتقبيل الطفل ليد أبيه عند بعض العائلات وأكل الفول أو الفتة يوم العطلة وغيرها من التصرفات نابعة عن دوافع مختلفة مثل الدين والرقابة المجتمعية والكفاية الاقتصادية مع جمعة العائلة فستكون التصرفات ظاهرة فوق الماء وتكون هذه الدوافع مخفية تحت الماء لكنها أساس وجذر لتلك التصرفات.

إن فهم القيم والدوافع لكل تصرّف صادر عن الأشخاص الذين نتعامل معهم يسهّل علينا استيعابهم ويجنّبنا التصادم معهم.

وبما أننا انتقلنا من بيئاتنا ومجتمعاتنا وبلداننا إلى بلدان ومجتمعات وبيئات مختلفة وغريبة علينا، وجب علينا فهم هذه البيئة الجديدة والمجتمع المحيط ليسهل علينا الاندماج ولتصير حياتنا أسهل.

علمًا أن الاندماج لا يعني الذوبان، لكنه فهم لغة المحيط وقبول الآخر والانسجام معه ومعرفة حقوق الفرد وواجباته.

أول خطوات الاندماج هي التواصل مع المحيط، والتواصل يكون بتعلّم اللغة وتبادل الخبرات والاحترام. ويكون ذلك بعد الاقتناع بوجود شيء مشترك بيننا وبين من حولنا. هذا الشيء قد يكون رغبتنا في إسعاد من حولنا أو مساعدتهم، قد يكون رغبتنا في إثراء المجتمع أو التعرّف على الآخرين ... هذا الشيء هو أمر إيجابي مشترك بيننا وبين من حولنا. وهو أمر لا يمكن رفضه من أي أحد.

لنتخيّل أن امرأتين، دخلتا سوقًا والتقيتا بعد خروجهما وعرضت كل واحدة منهما ما اشترته على رفيقتها. هناك ثلاث إمكانيات للحديث بينهما عما اشترتاه:
  • أن تنتقص كل واحدة منهما ما اشترته الأخرى وتعيبه وتعيب ذوقها في الشراء. (تصادم)
  • ألا تجاهر كل واحدة منهما بامتعاضها من سوء ذوق صاحبيتها وتبقي الأمر في نفسها من غير إعلانه. (تعايش)
  • أن تعتبر كل واحدة منهما أغراض صاحبتها مناسبة لما معها وتتفقا على الاستعارة من بعض. (تكامل واندماج)
نعود لتشبيهنا الأول: لدى كل واحد منا حقيبة ثقافية يحملها معه. محتوياتها هي محصّلة ما جمعه في رحلة حياته في الزمان والمكان والعلاقات الاجتماعية له. ومن الطبيعي ألا تكون محتوياتها مشابهة لحقائب الآخرين. لذلك لنحرص على أن نرى في حقائب الآخرين ما يكمّل ما لدينا ويثريه ففي ذلك جزء من إنسانيتنا ومغزىً من معاني حياتنا.

أما صاحبنا الشاعر الذي بدأت مقالتي بقصته، فلقد عاد بعد فترة للخليفة يحمل انطباعًا جديدًا عن الحياة (ثقافة جديدة) فأنشده:

عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِســـــرِ    
جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري

 أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديــــــــــمَ وَلَم أَكُن
سَلَوتُ وَلكِـــــــن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ

 سَلِمنَ وَأَسلَمنَ القُلوبَ كَأَنَّمــــــــــــــا
 تُشَـــــــكُّ بِأَطــــــــرافِ المُثَقَّفَةِ السُمرِ

وَقُلنَ لَنـــــــــا نَحــــــــــــنُ الأَهِلَّةُ إِنَّما 
تُضيءُ لِمَــــــــن يَسري بِلَيلٍ وَلا تَقري

فَلا بَذلَ إِلّا مــــــــــــــــــــــا تَزَوَّدَ ناظِرٌ
وَلا وَصلَ إِلّا بِالخَيــــــــالِ الَّذي يَسري 


 * القصة حسب بعض المراجع غير صحيحة. لكن تم استخدامها للاستدلال بالمعنى التي تحمله.

مواضيع قد تهمّك

ماذا نحمل في حقيبة حياتنا؟

الحقيبة الثقافية   يُحكى * أن الشاعر العباسي عليّ بن الجهم دخل على الخليفة المتوكّل وأنشده:   أَنتَ كَالكَلبِ في حِفاظِكَ لِلوُدْ ...

مواضيع مفضّلة